فصل: فَصْلٌ بَيْعُ الرِّبَوِيِّ الرَّطْبِ بِجِنْسِهِ مِنَ الْيَابِسِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد ونهاية المقتصد (نسخة منقحة)



.الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي مَعْرِفَةِ مَا يُعَدُّ صِنْفًا وَاحِدًا وَمَا لَا يُعَدُّ صِنْفًا وَاحِدًا:

وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِيمَا يُعَدُّ صِنْفًا وَاحِدًا، وَهُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي التَّفَاضُلِ مِمَّا لَا يُعَدُّ صِنْفًا وَاحِدًا فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ، لَكِنْ نَذْكُرُ مِنْهَا أَشْهَرَهَا. وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي صِفَاتِ الصِّنْفِ الْوَاحِدِ الْمُؤَثِّرِ فِي التَّفَاضُلِ، هَلْ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ بِالْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ، وَلَا بِالْيُبْسِ وَالرُّطُوبَةِ؟
فَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِيمَا يُعَدُّ صِنْفًا وَاحِدًا مِمَّا لَا يُعَدُّ صِنْفًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الْقَمْحُ وَالشَّعِيرُ، صَارَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُمَا صِنْفٌ وَاحِدٌ، وَصَارَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُمَا صِنْفَانِ، فَبِالْأَوَّلِ قَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَحَكَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَبِالثَّانِي قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَعُمْدَتُهُمَا السَّمَاعُ، وَالْقِيَاسُ. أَمَّا السَّمَاعُ، فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرَ بِالشَّعِيرِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ»، فَجَعَلَهُمَا صِنْفَيْنِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: «وَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ كَيْفَ شِئْتُمْ، وَالْبُرَّ بِالشَّعِيرِ كَيْفَ شِئْتُمْ، وَالْمِلْحَ بِالتَّمْرِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ» ذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَوَكِيعٌ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، وَصَحَّحَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ التِّرْمِذِيُّ.
وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَلِأَنَّهُمَا شَيْئَانِ اخْتَلَفَتْ أَسْمَاؤُهُمَا وَمَنَافِعُهُمَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَا صِنْفَيْنِ، أَصْلُهُ الْفِضَّةُ، وَالذَّهَبُ، وَسَائِرُ الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي الِاسْمِ وَالْمَنْفَعَةِ.
وَأَمَّا عُمْدَةُ مَالِكٍ فَإِنَّهُ عَمَلُ سَلَفِهِ بِالْمَدِينَةِ.
وَأَمَّا أَصْحَابُهُ فَاعْتَمَدُوا فِي ذَلِكَ أَيْضًا السَّمَاعَ وَالْقِيَاسَ. أَمَّا السَّمَاعُ فَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ»، فَقَالُوا: اسْمُ الطَّعَامِ يَتَنَاوَلُ الْبُرَّ وَالشَّعِيرَ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، فَإِنَّ هَذَا عَامٌّ يُفَسِّرُهُ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ.
وَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ: فَإِنَّهُمْ عَدَّدُوا كَثِيرًا مِنَ اتِّفَاقِهِمَا فِي الْمَنَافِعِ، وَالْمُتَّفِقَةُ الْمَنَافِعِ لَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِيهَا بِاتِّفَاقٍ، وَالسُّلْتُ عِنْدَ مَالِكٍ، وَالشَّعِيرُ صِنْفٌ وَاحِدٌ، وَأَمَّا الْقُطْنِيَّةُ فَإِنَّهَا عِنْدَهُ صِنْفٌ وَاحِدٌ فِي الزَّكَاةِ، وَعَنْهُ فِي الْبُيُوعِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا أَنَّهَا صِنْفٌ وَاحِدٌ، وَالْأُخْرَى أَنَّهَا أَصْنَافٌ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ تَعَارُضُ اتِّفَاقِ الْمَنَافِعِ فِيهَا وَاخْتِلَافُهَا، فَمَنْ غَلَّبَ الِاتِّفَاقَ قَالَ: صِنْفٌ وَاحِدٌ، وَمَنْ غَلَّبَ الِاخْتِلَافَ قَالَ: صِنْفَانِ أَوْ أَصْنَافٌ، وَالْأُرْزُ، وَالدُّخْنُ، وَالْجَاوَرْسُ عِنْدَهُ صِنْفٌ وَاحِدٌ.

.مَسْأَلَةٌ [الصِّنْفُ الْوَاحِدُ مِنَ اللَّحْمِ الَّذِي لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّفَاضُلُ]:

وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي الصِّنْفِ الْوَاحِدِ مِنَ اللَّحْمِ الَّذِي لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّفَاضُلُ، فَقَالَ مَالِكٌ: اللُّحُومُ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: فَلَحْمُ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ صِنْفٌ، وَلَحْمُ ذَوَاتِ الْمَاءِ صِنْفٌ، وَلَحْمُ الطَّيْرِ كُلُّهُ صِنْفٌ وَاحِدٌ أَيْضًا، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ الْأَصْنَافُ مُخْتَلِفَةٌ يَجُوزُ فِيهَا التَّفَاضُلُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ هُوَ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ، وَالتَّفَاضُلُ فِيهِ جَائِزٌ إِلَّا فِي النَّوْعِ الْوَاحِدِ بِعَيْنِهِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْآخَرُ أَنَّ جَمِيعَهَا صِنْفٌ وَاحِدٌ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يُجِيزُ لَحْمَ الْغَنَمِ بِالْبَقَرِ مُتَفَاضِلًا، وَمَالِكٌ لَا يُجِيزُهُ، وَالشَّافِعِيُّ لَا يُجِيزُ بَيْعَ لَحْمِ الطَّيْرِ بِلَحْمِ الْغَنَمِ مُتَفَاضِلًا، وَمَالِكٌ يُجِيزُهُ. وَعُمْدَةُ الشَّافِعِيِّ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ»، وَلِأَنَّهَا إِذَا فَارَقَتْهَا الْحَيَاةُ زَالَتِ الصِّفَاتُ الَّتِي كَانَتْ بِهَا تَخْتَلِفُ، وَيَتَنَاوَلُهَا اسْمُ اللَّحْمِ تَنَاوُلًا وَاحِدًا. وَعُمْدَةُ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ هَذِهِ الْأَجْنَاسَ مُخْتَلِفَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَحْمُهَا مُخْتَلِفًا. وَالْحَنَفِيَّةُ تَعْتَبِرُ الِاخْتِلَافَ الَّذِي فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْ هَذِهِ وَتَقُولُ: إِنَّ الِاخْتِلَافَ الَّذِي بَيْنَ الْأَنْوَاعِ الَّتِي فِي الْحَيَوَانِ، (أَعْنِي: فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْهُ) كَأَنَّكَ قُلْتَ: الطَّائِرُ هُوَ وَزَانُ الِاخْتِلَافِ الَّذِي بَيْنَ التَّمْرِ وَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلُّ طَائِفَةٍ تَدَّعِي أَنَّ وَزَانَ الِاخْتِلَافِ الَّذِي بَيْنَ الْأَشْيَاءِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا هُوَ الِاخْتِلَافُ الَّذِي تَرَاهُ فِي اللَّحْمِ، وَالْحَنَفِيَّةُ أَقْوَى مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، لِأَنَّ تَحْرِيمَ التَّفَاضُلِ إِنَّمَا هُوَ عِنْدَ اتِّفَاقِ الْمَنْفَعَةِ.

.مَسْأَلَةٌ [بَيْعُ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ بِالْمَذْبُوحِ]:

وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْمَيِّتِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: قَوْلٌ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ بِإِطْلَاقٍ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَقَوْلٌ إِنَّهُ يَجُوزُ فِي الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا التَّفَاضُلُ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْمُتَّفِقَةِ (أَعْنِي: الرِّبَوِيَّةَ)، لِمَكَانِ الْجَهْلِ الَّذِي فِيهَا مِنْ طَرِيقِ التَّفَاضُلِ، وَذَلِكَ فِي الَّتِي الْمَقْصُودِ مِنْهَا الْأَكْلُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، فَلَا يَجُوزُ شَاةٌ مَذْبُوحَةٌ بِشَاةٍ تُرَادُ لِلْأَكْلِ، وَذَلِكَ عِنْدَهُ فِي الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ، حَتَّى أَنَّهُ لَا يُجِيزُ الْحَيَّ بِالْحَيِّ إِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَكْلَ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَهِيَ عِنْدُهُ مِنْ هَذَا الْبَابِ، (أَعْنِي: أَنَّ امْتِنَاعَ ذَلِكَ عِنْدَهُ مِنْ جِهَةِ الرِّبَا، وَالْمُزَابَنَةِ)، وَقَوْلٌ ثَالِثٌ: إِنَّهُ يَجُوزُ مُطْلَقًا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ مُعَارَضَةُ الْأُصُولِ فِي هَذَا الْبَابِ لِمُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَالِكًا رَوَى عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِاللَّحْمِ» فَمَنْ لَمْ تَنْقَدِحْ عِنْدَهُ مُعَارَضَةُ هَذَا الْحَدِيثِ لِأَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الْبُيُوعِ الَّتِي تُوجِبُ التَّحْرِيمَ قَالَ بِهِ. وَمَنْ رَأَى أَنَّ الْأُصُولَ مُعَارِضَةٌ لَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُغَلِّبَ الْحَدِيثَ فَيَجْعَلَهُ أَصْلًا زَائِدًا بِنَفْسِهِ، أَوْ يَرُدَّهُ لِمَكَانِ مُعَارَضَةِ الْأُصُولِ لَهُ. فَالشَّافِعِيُّ غَلَّبَ الْحَدِيثَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ غَلَّبَ الْأُصُولَ، وَمَالِكٌ رَدَّهُ إِلَى أُصُولِهِ فِي الْبُيُوعِ، فَجَعَلَ الْبَيْعَ فِيهِ مِنْ بَابِ الرِّبَا، (أَعْنِي: بِيعَ الشَّيْءِ الرِّبَوِيِّ بِأَصْلِهِ)، مِثْلَ بَيْعِ الزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، فَإِنَّهُ الَّذِي يُعَرِّفُهُ الْفُقَهَاءُ بِالْمُزَابَنَةِ، وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي الرِّبَا بِجِهَةٍ، وَفِي الْغَرَرِ بِجِهَةٍ، وَذَلِكَ أَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ فِي الرِّبَوِيَّاتِ مِنْ جِهَةِ الرِّبَا، وَالْغَرَرِ، وَفِي غَيْرِ الرِّبَوِيَّاتِ مِنْ جِهَةِ الْغَرَرِ فَقَطْ، الَّذِي سَبَّبَهُ الْجَهْلُ بِالْخَارِجِ عَنِ الْأَصْلِ.

.مَسْأَلَةٌ [بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالْحِنْطَةِ]:

وَمِنْ هَذَا الْبَابِ اخْتِلَافُهُمْ فِي بَيْعِ الدَّقِيقِ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَالْأَشْهَرُ عَنْ مَالِكٍ جَوَازُهُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي مُوَطَّئِهِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ: لَيْسَ هُوَ اخْتِلَافًا مِنْ قَوْلِهِ، وَإِنَّمَا رِوَايَةُ الْمَنْعِ إِذَا كَانَ اعْتِبَارُ الْمِثْلِيَّةِ بِالْكَيْلِ، لِأَنَّ الطَّعَامَ إِذَا صَارَ دَقِيقًا اخْتَلَفَ كَيْلُهُ، وَرِوَايَةُ الْجَوَازِ إِذَا كَانَ الِاعْتِبَارُ بِالْوَزْنِ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَالْمَنْعُ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أَنَّ أَحَدَهُمَا مَكِيلٌ، وَالْآخَرُ مَوْزُونٌ. وَمَالِكٌ يَعْتَبِرُ الْكَيْلَ، أَوِ الْوَزْنَ فِيمَا جَرَتِ الْعَادَةُ أَنْ يُكَالَ، أَوْ يُوزَنَ، وَالْعَدَدُ فِيمَا لَا يُكَالُ، وَلَا يُوزَنُ. وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِيمَا تَدْخُلُهُ الصَّنْعَةُ مِمَّا أَصْلُهُ مَنْعُ الرِّبَا فِيهِ مِثْلُ الْخُبْزِ بِالْخُبْزِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا بَأْسَ بِبَيْعِ ذَلِكَ مُتَفَاضِلًا، وَمُتَمَاثِلًا، لِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ بِالصَّنْعَةِ عَنِ الْجِنْسِ الَّذِي فِيهِ الرِّبَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ مُتَمَاثِلًا فَضْلًا عَنْ مُتَفَاضِلٍ، لِأَنَّهُ قَدْ غَيَّرَتْهُ الصَّنْعَةُ تَغَيُّرًا جُهِلَتْ بِهِ مَقَادِيرُهُ الَّتِي تُعْتَبَرُ فِيهَا الْمُمَاثَلَةُ.
وَأَمَّا مَالِكٌ: فَالْأَشْهَرُ فِي الْخُبْزِ عِنْدَهُ أَنَّهُ يَجُوزُ مُتَمَاثِلًا، وَقَدْ قِيلَ فِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ التَّفَاضُلُ، وَالتَّسَاوِي.
وَأَمَّا الْعَجِينُ بِالْعَجِينِ فَجَائِزٌ عِنْدَهُ مَعَ الْمُمَاثَلَةِ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ هَلِ الصَّنْعَةُ تَنْقُلُهُ مِنْ جِنْسِ الرِّبَوِيَّاتِ، أَوْ لَيْسَ تَنْقُلُهُ؟
وَإِنْ لَمْ تَنْقُلْهُ فَهَلْ تُمْكِنُ الْمُمَاثَلَةُ فِيهِ أَوْ لَا تُمْكِنُ؟
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَنْقُلُهُ، وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا تَنْقُلُهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي إِمْكَانِ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِمَا، فَكَانَ مَالِكٌ يُجِيزُ اعْتِبَارَ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْخُبْزِ، وَاللَّحْمِ بِالتَّقْدِيرِ، وَالْحَزْرِ فَضْلًا عَنِ الْوَزْنِ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ أَحَدُ الرِّبَوِيَّيْنِ لَمْ تَدْخُلْهُ صَنْعَةٌ وَالْآخَرُ قَدْ دَخَلَتْهُ الصَّنْعَةُ، فَإِنَّ مَالِكًا يَرَى فِي كَثِيرٍ مِنْهَا أَنَّ الصَّنْعَةَ تَنْقُلُهُ مِنَ الْجِنْسِ (أَعْنِي: مِنْ أَنْ يَكُونَ جِنْسًا وَاحِدًا) فَيُجِيزُ فِيهَا التَّفَاضُلَ، وَفِي بَعْضِهَا لَيْسَ يُرَى ذَلِكَ، وَتَفْصِيلُ مَذْهَبِهِ فِي ذَلِكَ عَسِيرُ الِانْفِصَالِ، فَاللَّحْمُ الْمَشْوِيُّ وَالْمَطْبُوخُ عِنْدَهُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَالْحِنْطَةُ الْمَقْلُوَّةُ عِنْدَهُ وَغَيْرُ الْمَقْلُوَّةِ جِنْسَانِ، وَقَدْ رَامَ أَصْحَابُهُ التَّفْصِيلَ فِي ذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ قَانُونٌ مِنْ قَوْلِهِ حَتَّى يَنْحَصِرَ فِيهِ أَقْوَالُهُ فِيهَا، وَقَدْ رَامَ حَصْرَهَا الْبَاجِيُّ فِي الْمُنْتَقَى، وَكَذَلِكَ أَيْضًا يَعْسُرُ حَصْرُ الْمَنَافِعِ الَّتِي تُوجِبُ عِنْدَهُ الِاتِّفَاقَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَجْنَاسِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا التَّعَامُلُ، وَتَمْيِيزُهَا مِنَ الَّتِي لَا تُوجِبُ ذَلِكَ (أَعْنِي: فِي الْحَيَوَانِ، وَالْعُرُوضِ، وَالنَّبَاتِ). وَسَبَبُ الْعُسْرِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ أَشْيَاءَ مُتَشَابِهَةٍ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ قَانُونٌ يَعْمَلُ عَلَيْهِ فِي تَمْيِيزِهَا إِلَّا مَا يُعْطِيهِ بَادِئُ النَّظَرِ فِي الْحَالِ جَاوَبَ فِيهَا بِجَوَابَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَإِذَا جَاءَ مِنْ بَعْدِهِ أَحَدٌ فَرَامَ أَنْ يُجْرِيَ تِلْكَ الْأَجْوِبَةَ عَلَى قَانُونٍ وَاحِدٍ وَأَصْلٍ وَاحِدٍ عَسُرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَأَنْتَ تَتَبَيَّنُ ذَلِكَ مِنْ كُتُبِهِمْ، فَهَذِهِ هِيَ أُمَّهَاتُ هَذَا الْبَابِ.

.فَصْلٌ بَيْعُ الرِّبَوِيِّ الرَّطْبِ بِجِنْسِهِ مِنَ الْيَابِسِ:

وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي بَيْعِ الرِّبَوِيِّ الرَّطْبِ بِجِنْسِهِ مِنَ الْيَابِسِ مَعَ وُجُودِ التَّمَاثُلِ فِي الْقَدْرِ وَالتَّنَاجُزِ، فَإِنَّ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ مَا رَوَى مَالِكٌ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْأَلُ عَنْ شِرَاءِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا جَفَّ؟
فَقَالُوا: نَعَمْ. فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ»
، فَأَخَذَ بِهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ عَلَى حَالِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَغَيْرِهِمَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ ذَلِكَ، وَخَالَفَهُ فِي ذَلِكَ صَاحِبَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَأَبُو يُوسُفَ. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ مُعَارَضَةُ ظَاهِرِ حَدِيثِ عُبَادَةَ وَغَيْرِهِ لَهُ، وَاخْتِلَافُهُمْ فِي تَصْحِيحِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ حَدِيثَ عُبَادَةَ اشْتَرَطَ فِي الْجَوَازِ فَقَطِ الْمُمَاثَلَةَ، وَالْمُسَاوَاةَ، وَهَذَا يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ حَالَ الْعَقْدِ لَا حَالَ الْمَآلِ، فَمَنْ غَلَّبَ ظَوَاهِرَ أَحَادِيثِ الرِّبَوِيَّاتِ رَدَّ هَذَا الْحَدِيثَ، وَمَنْ جَعَلَ هَذَا الْحَدِيثَ أَصْلًا بِنَفْسِهِ قَالَ: هُوَ أَمْرٌ زَائِدٌ وَمُفَسِّرٌ لِأَحَادِيثِ الرِّبَوِيَّاتِ. وَالْحَدِيثُ أَيْضًا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَصْحِيحِهِ، وَلَمْ يُخَرِّجْهُ الشَّيْخَانِ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: خُولِفَ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ، فَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ عَنْه: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ نَسِيئَةً»، وَقَالَ: إِنَّ الَّذِي يَرْوِي عَنْهُ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ هُوَ مَجْهُولٌ، لَكِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ صَارُوا إِلَى الْعَمَلِ بِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ قِيَاسًا بِهِ عَلَى تَعْلِيلِ الْحُكْمِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ رَطْبٍ بِيَابِسٍ مِنْ نَوْعِهِ حَرَامٌ (يَعْنِي: مَنْعَ الْمُمَاثَلَةِ) كَالْعَجِينِ بِالدَّقِيقِ، وَاللَّحْمِ الْيَابِسِ بِالرَّطْبِ، وَهُوَ أَحَدُ قِسْمَيِ الْمُزَابَنَةِ عِنْدَ مَالِكٍ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا عِنْدَهُ، وَالْعَرِيَّةُ عِنْدَهُ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَالْمُزَابَنَةُ الْمَنْهِيُّ عَنْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هِيَ بَيْعُ التَّمْرِ عَلَى الْأَرْضِ بِالتَّمْرِ فِي رُءُوسِ النَّخِيلِ لِمَوْضِعِ الْجَهْلِ بِالْمِقْدَارِ الَّذِي بَيْنَهُمَا (أَعْنِي: بِوُجُودِ التَّسَاوِي). وَطَرَدَ الشَّافِعِيُّ هَذِهِ الْعِلَّةَ فِي الشَّيْئَيْنِ الرَّطْبَيْنِ، فَلَمْ يُجِزْ بَيْعَ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ، وَلَا الْعَجِينِ بِالْعَجِينِ مَعَ التَّمَاثُلِ، لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ التَّفَاضُلَ يُوجَدُ بَيْنَهُمَا عِنْدَ الْجَفَافِ. وَخَالَفَهُ فِي ذَلِكَ جُلُّ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْحَدِيثِ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي بَيْعِ الْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ فِي الْأَصْنَافِ الرِّبَوِيَّةِ، فَذَلِكَ يُتَصَوَّرُ بِأَنْ يُبَاعَ مِنْهَا صِنْفٌ وَاحِدٌ وَسَطٌ فِي الْجَوْدَةِ بِصِنْفَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَجْوَدُ مِنْ ذَلِكَ الصِّنْفِ، وَالْآخَرُ أَرْدَأُ، مِثْلَ أَنْ يَبِيعَ مُدَّيْنِ مِنْ تَمْرٍ وَسَطًا بِمُدَّيْنِ مِنْ تَمْرٍ أَحَدُهُمَا أَعْلَى مِنَ الْوَسَطِ، وَالْآخَرُ أَدْوَنُ مِنْهُ، فَإِنَّ مَالِكًا يَرُدُّ هَذَا لِأَنَّهُ يُهِمُّهُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا قَصَدَ أَنْ يَدْفَعَ مُدَّيْنِ مِنَ الْوَسَطِ فِي مُدٍّ مِنَ الطَّيِّبِ، فَجَعَلَ مَعَهُ الرَّدِيءَ ذَرِيعَةً إِلَى تَحْلِيلِ مَا لَا يَجِبُ مِنْ ذَلِكَ، وَوَافَقَهُ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا، وَلَكِنَّ التَّحْرِيمَ عِنْدَهُ لَيْسَ هُوَ فِيمَا أَحْسَبُ لِهَذِهِ التُّهْمَةِ، لِأَنَّهُ لَا يُعْمِلُ التُّهَمَ، وَلَكِنْ يُشْبِهُ أَنْ يَعْتَبِرَ التَّفَاضُلَ فِي الصِّفَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَتَى لَمْ تَكُنْ زِيَادَةُ الطَّيِّبِ عَلَى الْوَسَطِ مِثْلَ نُقْصَانِ الرَّدِيءِ عَنِ الْوَسَطِ، وَإِلَّا فَلَيْسَ هُنَاكَ مُسَاوَاةٌ فِي الصِّفَةِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ اخْتِلَافُهُمْ فِي جَوَازِ بَيْعِ صِنْفٍ مِنَ الرِّبَوِيَّاتِ بِصِنْفٍ مِثْلِهِ وَعَرَضٍ، أَوْ دَنَانِيرَ، أَوْ دَرَاهِمَ إِذَا كَانَ الصِّنْفُ الَّذِي يُجْعَلُ مَعَهُ الْعَرْضُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الصِّنْفِ الْمُفْرَدِ، أَوْ يَكُونُ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَرَضٌ وَالصِّنْفَانِ مُخْتَلِفَانِ فِي الْقَدْرِ، فَالْأَوَّلُ مِثْلُ أَنْ يَبِيعَ كَيْلَيْنِ مِنَ التَّمْرِ بِكَيْلٍ مِنَ التَّمْرِ وَدِرْهَمٍ، وَالثَّانِي مِثْلُ أَنْ يَبِيعَ كَيْلَيْنِ مِنَ التَّمْرِ وَثَوْبًا بِثَلَاثَةِ أَكْيَالٍ مِنَ التَّمْرِ وَدِرْهَمٍ، فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَاللَّيْثُ: إِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالْكُوفِيُّونَ: إِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ. فَسَبَبُ الْخِلَافِ هَلْ مَا يُقَابِلُ الْعَرَضَ مِنَ الْجِنْسِ الرِّبَوِيِّ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لَهُ فِي الْقِيمَةِ أَوْ يَكْفِي فِي ذَلِكَ رِضَا الْبَائِعِ؟
فَمَنْ قَالَ الِاعْتِبَارَ بِمُسَاوَاتِهِ فِي الْقِيمَةِ قَالَ: لَا يَجُوزُ لِمَكَانِ الْجَهْلِ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْعَرَضُ مُسَاوِيًا لِفَضْلِ أَحَدِ الرِّبَوِيَّيْنِ عَلَى الثَّانِي كَانَ التَّفَاضُلُ ضَرُورَةً، مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّهُ إِنْ بَاعَ كَيْلَيْنِ مِنْ تَمْرٍ بِكَيْلٍ وَثَوْبٍ فَقَدْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ الثَّوْبِ تُسَاوِي الْكَيْلَ، وَإِلَّا وَقَعَ التَّفَاضُلُ ضَرُورَةً.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَيَكْتَفِي فِي ذَلِكَ بِأَنْ يَرْضَى بِهِ الْمُتَبَايِعَانِ، وَمَالِكٌ يَعْتَبِرُ أَيْضًا فِي هَذَا سَدَّ الذَّرِيعَةِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا جَعَلَ جَاعِلٌ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى بَيْعِ الصِّنْفِ الْوَاحِدِ مُتَفَاضِلًا فَهَذِهِ مَشْهُورَاتُ مَسَائِلِهِمْ فِي هَذَا الْجِنْسِ.
بَابٌ فِي بُيُوعِ الذَّرَائِعِ الرِّبَوِيَّةِ وَهَاهُنَا شَيْءٌ يَعْرِضُ لِلْمُتَبَايِعَيْنِ إِذَا قَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، وَلِلْمُتَبَايِعَيْنِ إِذَا اشْتَرَى أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ الشَّيْءَ الَّذِي بَاعَهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ وَهُوَ أَنْ يُتَصَوَّرَ بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَى ذَلِكَ تَبَايُعٌ رِبَوِيٌّ، مِثْلُ أَنْ يَبِيعَ إِنْسَانٌ مِنْ إِنْسَانٍ سِلْعَةً بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ نَقْدًا، ثُمَّ يَشْتَرِيهَا مِنْهُ بِعِشْرِينَ إِلَى أَجَلٍ، فَإِذَا أُضِيفَتِ الْبَيْعَةُ الثَّانِيَةُ إِلَى الْأُولَى اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا دَفَعَ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ فِي عِشْرِينَ إِلَى أَجَلٍ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُعْرَفُ بِبُيُوعِ الْآجَالِ. فَنَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ مَسْأَلَةً فِي الْإِقَالَةِ، وَمَسْأَلَةً مِنْ بُيُوعِ الْآجَالِ إِذْ كَانَ هَذَا الْكِتَابُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهِ التَّفْرِيعَ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ فِيهِ تَحْصِيلُ الْأُصُولِ.

.مَسْأَلَةٌ [فِي الْإِقَالَةِ في البيوع]:

لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ مَنْ بَاعَ شَيْئًا مَا كَأَنَّكَ قُلْتَ عَبْدًا بِمِائَةِ دِينَارٍ مَثَلًا إِلَى أَجَلٍ، ثُمَّ نَدِمَ الْبَائِعُ فَسَأَلَ الْمُبْتَاعَ أَنْ يَصْرِفَ إِلَيْهِ مَبِيعَهُ، وَيَدْفَعَ إِلَيْهِ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ مَثَلًا نَقْدًا، أَوْ إِلَى أَجَلٍ، أَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَأَنَّ الْإِقَالَةَ عِنْدَهُمْ إِذَا دَخَلَتْهَا الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ هِيَ بَيْعٌ مُسْتَأْنَفٌ، وَلَا حَرَجَ فِي أَنْ يَبِيعَ الْإِنْسَانُ الشَّيْءَ بِثَمَنٍ ثُمَّ يَشْتَرِيَهُ بِأَكْثَرَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اشْتَرَى مِنْهُ الْبَائِعُ الْأَوَّلُ الْعَبْدَ الَّذِي بَاعَهُ بِالْمِائَةِ الَّتِي وَجَبَتْ لَهُ وَبِالْعَشَرَةِ مَثَاقِيلَ الَّتِي زَادَهَا نَقْدًا أَوْ إِلَى أَجَلٍ، وَكَذَلِكَ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ لَوْ كَانَ الْبَيْعُ بِمِائَةِ دِينَارٍ إِلَى أَجَلٍ، وَالْعَشَرَةُ مَثَاقِيلَ نَقْدًا أَوْ إِلَى أَجَلٍ.
وَأَمَّا إِنْ نَدِمَ الْمُشْتَرِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَسَأَلَ الْإِقَالَةَ عَلَى أَنْ يُعْطِيَ الْبَائِعَ الْعَشَرَةَ الْمَثَاقِيلَ نَقْدًا أَوْ إِلَى أَجَلٍ أَبْعَدَ مِنَ الْأَجَلِ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ الْمِائَةُ، فَهُنَا اخْتَلَفُوا، فَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ، وَوَجْهُ مَا كَرِهَ مِنْ ذَلِكَ مَالِكٌ أَنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إِلَى قَصْدِ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ إِلَى أَجَلٍ، وَإِلَى بَيْعِ ذَهَبٍ وَعَرَضٍ بِذَهَبٍ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ دَفَعَ الْعَشَرَةَ مَثَاقِيلَ، وَالْعَبْدَ فِي الْمِائَةِ دِينَارٍ الَّتِي عَلَيْهِ، وَأَيْضًا يَدْخُلُهُ بَيْعٌ وَسَلَفٌ كَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ بَاعَهُ الْعَبْدَ بِتِسْعِينَ وَأَسْلَفَهُ عَشَرَةً إِلَى الْأَجَلِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ قَبْضُهَا مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ: فَهَذَا عِنْدَهُ كُلُّهِ جَائِزٌ لِأَنَّهُ شِرَاءٌ مُسْتَأْنَفٌ، وَلَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ مِائَةُ دِينَارٍ مُؤَجَّلَةٌ، فَيَشْتَرِي مِنْهُ غُلَامًا بِالتِّسْعِينَ دِينَارًا الَّتِي عَلَيْهِ وَيَتَعَجَّلُ لَهُ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ، وَذَلِكَ جَائِزٌ بِإِجْمَاعٍ. قَالَ: وَحَمْلُ النَّاسِ عَلَى التُّهَمِ لَا يَجُوزُ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ نَقْدًا فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ يَدْخُلُهُ بَيْعُ ذَهَبٍ بِذَهَبٍ نَسِيئَةً، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا كَرِهَ ذَلِكَ لِمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِينَةِ (أَعْنِي: الَّذِي يُدَايِنُ النَّاسَ)، لِأَنَّهُ عِنْدَهُ ذَرِيعَةٌ لِسَلَفٍ فِي أَكْثَرَ مِنْهُ يَتَوَصَّلَانِ إِلَيْهِ بِمَا أَظْهَرَا مِنَ الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ لَهُ حَقِيقَةٌ.

.[بُيُوعُ الْآجَالِ أنواعها وحكمها]:

وَأَمَّا الْبُيُوعُ الَّتِي يُعَرِّفُوهَا بِبُيُوعِ الْآجَالِ، فَهِيَ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ سِلْعَةً بِثَمَنٍ إِلَى أَجَلٍ ثُمَّ يَشْتَرِيهَا بِثَمَنٍ آخَرَ إِلَى أَجَلٍ آخَرَ أَوْ نَقْدًا. وَهُنَا تِسْعُ مَسَائِلَ - إِذَا لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ زِيَادَةُ عَرَضٍ - اخْتُلِفَ مِنْهَا فِي مَسْأَلَتَيْنِ، وَاتُّفِقَ فِي الْبَاقِي، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَنْ بَاعَ شَيْئًا إِلَى أَجَلٍ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ، فَإِمَّا أَنْ يَشْتَرِيَهُ إِلَى ذَلِكَ الْأَجَلِ بِعَيْنِهِ أَوْ قَبْلَهُ، أَوْ بَعْدَهُ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ إِمَّا أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الَّذِي بَاعَهُ بِهِ مِنْهُ، وَإِمَّا بِأَقَلَّ، وَإِمَّا بِأَكْثَرَ يُخْتَلَفُ مِنْ ذَلِكَ فِي اثْنَيْنِ، وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا قَبْلَ الْأَجَلِ نَقْدًا بِأَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ، أَوْ إِلَى أَبْعَدِ مِنْ ذَلِكَ الْأَجَلِ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ. فَعِنْدَ مَالِكٍ، وَجُمْهُورِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَدَاوُدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ: يَجُوزُ. فَمَنْ مَنَعَهُ فَوَجْهُ مَنْعِهِ اعْتِبَارُ الْبَيْعِ الثَّانِي بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ، فَاتَّهَمَهُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا قَصَدَ دَفْعَ الدَّنَانِيرِ فِي أَكْثَرَ مِنْهَا إِلَى أَجَلٍ، وَهُوَ الرِّبَا الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، فَزَوَّرَ لِذَلِكَ هَذِهِ الصُّورَةَ لِيَتَّصِلَا بِهَا إِلَى الْحَرَامِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ لِآخَرَ: أَسْلِفْنِي عَشَرَةَ دَنَانِيرَ إِلَى شَهْرٍ، وَأَرُدُّ إِلَيْكَ عِشْرِينَ دِينَارًا، فَيَقُولُ: هَذَا لَا يَجُوزُ، وَلَكِنْ أَبِيعُ مِنْكَ هَذَا الْحِمَارَ بِعِشْرِينَ إِلَى شَهْرٍ، ثُمَّ أَشْتَرِيهِ مِنْكَ بِعَشَرَةٍ نَقْدًا.
وَأَمَّا فِي الْوُجُوهِ الْبَاقِيَةِ فَلَيْسَ يُتَّهَمُ فِيهَا لِأَنَّهُ إِنْ أَعْطَى أَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الْأَجَلِ لَمْ يُتَّهَمْ.
وَكَذَلِكَ إِنِ اشْتَرَاهَا بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ إِلَى أَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ الْأَجَلِ، وَمِنَ الْحُجَّةِ لِمَنْ رَأَى هَذَا الرَّأْيَ حَدِيثُ الْعَالِيَةِ، عَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّهَا سَمِعَتْهَا وَقَدْ قَالَتْ لَهَا امْرَأَةٌ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لِزَيْدِ بْنِ أَرْقَمْ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي بِعْتُ مِنْ زَيْدٍ عَبْدًا إِلَى الْعَطَاءِ بِثَمَانِمَائَةٍ فَاحْتَاجَ إِلَى ثَمَنِهِ، فَاشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ قَبْلَ مَحِلِّ الْأَجَلِ بِسِتِّمِائَةٍ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: بِئْسَمَا شَرَيْتِ، وَبِئْسَمَا اشْتَرَيْتِ، أَبْلِغِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ لَمْ يَتُبْ، قَالَتْ: أَرَأَيْتِ إِنْ تَرَكْتُ وَأَخَذْتُ السِّتَّمِائَةِ دِينَارٍ؟
قَالَتْ: نَعَمَ، فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ»
.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُهُ: لَا يَثْبُتُ حَدِيثُ عَائِشَةَ، وَأَيْضًا فَإِنَّ زَيْدًا قَدْ خَالَفَهَا، وَإِذَا اخْتَلَفَتِ الصَّحَابَةُ فَمَذْهَبُنَا الْقِيَاسُ، وَرُوِيَ مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
وَأَمَّا إِذَا حَدَثَ بِالْمَبِيعِ نَقْصٌ عِنْدَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ، فَإِنَّ الثَّوْرِيَّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْكُوفِيِّينَ أَجَازُوا لِبَائِعِهِ بِالنَّظِرَةِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ نَقْدًا بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ، وَعَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ. وَالصُّوَرُ الَّتِي يَعْتَبِرُهَا مَالِكٌ فِي الذَّرَائِعِ فِي هَذِهِ الْبُيُوعِ هِيَ أَنْ يَتَذَرَّعَ مِنْهَا إِلَى: أَنْظِرْنِي أَزِدْكَ، أَوْ إِلَى بَيْعِ مَا لَا يَجُوزُ مُتَفَاضِلًا، أَوْ بَيْعِ مَا لَا يَجُوزُ نَسَاءً، أَوْ إِلَى بَيْعٍ، وَسَلَفٍ، أَوْ إِلَى ذَهَبٍ، وَعَرَضٍ بِذَهَبٍ، أَوْ إِلَى: ضَعْ وَتَعَجَّلْ، أَوْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ، أَوْ بِيعٍ أَوْ صَرْفٍ، فَإِنَّ هَذِهِ هِيَ أُصُولُ الرِّبَا. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ اخْتِلَافُهُمْ فِيمَنْ بَاعَ طَعَامًا بِطَعَامٍ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ، فَمَنَعَهُ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَجَمَاعَةٌ، وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ وَجَمَاعَةٌ. وَحُجَّةُ مَنْ كَرِهَهُ أَنَّهُ شَبِيهٌ بِبَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ نَسَاءً، وَمَنْ أَجَازَهُ لَمْ يَرَ ذَلِكَ فِيهِ اعْتِبَارًا بِتَرْكِ الْقَصْدِ إِلَى ذَلِكَ. وَمِنْ ذَلِكَ اخْتِلَافُهُمْ فِيمَنِ اشْتَرَى طَعَامًا بِثَمَنٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، فَلَمَّا حَلَّ الْأَجَلُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْبَائِعِ طَعَامٌ يَدْفَعُهُ إِلَيْهِ، فَاشْتَرَى مِنَ الْمُشْتَرِي طَعَامًا بِثَمَنٍ يَدْفَعُهُ إِلَيْهِ مَكَانَ طَعَامِهِ الَّذِي وَجَبَ لَهُ فَأَجَازَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ: لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَشْتَرِيَ الطَّعَامَ مِنْ غَيْرِ الْمُشْتَرِي الَّذِي وَجَبَ لَهُ عَلَيْهِ، أَوْ مِنَ الْمُشْتَرِي نَفْسِهِ، وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ مَالِكٌ، وَرَآهُ مِنَ الذَّرِيعَةِ إِلَى بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ، لِأَنَّهُ رَدَّ إِلَيْهِ الطَّعَامَ الَّذِي كَانَ تَرَتَّبَ فِي ذِمَّتِهِ، فَيَكُونُ قَدْ بَاعَهُ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ. وَصُورَةُ الذَّرِيعَةِ فِي ذَلِكَ: أَنْ يَشْتَرِيَ رَجُلٌ مِنْ آخَرَ طَعَامًا إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِ الطَّعَامُ: لَيْسَ عِنْدِي طَعَامٌ، وَلَكِنْ أَشْتَرِي مِنْكَ الطَّعَامَ الَّذِي وَجَبَ لَكَ عَلَيَّ، فَقَالَ هَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ بِيعَ الطَّعَامُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ فَيَقُولُ لَهُ: فَبِعْ طَعَامًا مِنِّي وَأَرُدُّهُ عَلَيْكَ، فَيَعْرِضُ مِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ، (أَعْنِي: أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ الطَّعَامَ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُ، وَيُبْقِيَ الثَّمَنَ الْمَدْفُوعَ إِنَّمَا هُوَ ثَمَنُ الطَّعَامِ الَّذِي هُوَ فِي ذِمَّتِهِ).
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ: فَلَا يَعْتَبِرُ التُّهَمَ كَمَا قُلْنَا، وَإِنَّمَا يُرَاعِي فِيمَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنَ الْبُيُوعِ مَا اشْتَرَطَا وَذَكَرَاهُ بِأَلْسِنَتِهِمَا وَظَهَرَ مِنْ فِعْلِهِمَا لِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا قَالَ: أَبِيعُكَ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ مِثْلِهَا، وَأَنْظِرُكَ بِهَا حَوْلًا، أَوْ شَهْرًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ قَالَ لَهُ: أَسْلِفْنِي دَرَاهِمَ، وَأَمْهِلْنِي بِهَا حَوْلًا أَوْ شَهْرًا جَازَ، فَلَيْسَ بَيْنَهُمَا إِلَّا اخْتِلَافُ لَفْظِ الْبَيْعِ، وَقَصْدِهِ، وَلَفَظِ الْقَرْضِ وَقَصْدِهِ. وَلَمَّا كَانَتْ أُصُولُ الرِّبَا كَمَا قُلْنَا خَمْسَةً: أَنْظِرْنِي أَزِدْكَ، وَالتَّفَاضُلُ، وَالنَّسَاءُ، وَضَعْ وَتَعَجَّلْ، وَبَيْعُ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ؛ فَإِنَّهُ يُظَنُّ أَنَّهُ مِنْ هَذَا الْبَابِ، إِذْ فَاعِلُ ذَلِكَ يَدْفَعُ دَنَانِيرَ وَيَأْخُذُ أَكْثَرَ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفِ فِعْلٍ، وَلَا ضَمَانٍ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ نَذْكُرَ هَاهُنَا هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ. أَمَّا ضَعْ وَتَعَجَّلْ: فَأَجَازَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَزُفَرُ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، وَمَنَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ عُمَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ، فَأَجَازَ مَالِكٌ، وَجُمْهُورُ مَنْ يُنْكِرُ: ضَعْ وَتَعَجَّلْ، أَنْ يَتَعَجَّلَ الرَّجُلُ فِي دَيْنِهِ الْمُؤَجَّلِ عَرَضًا يَأْخُذُهُ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ دَيْنِهِ. وَعُمْدَةُ مَنْ لَمْ يُجِزْ ضَعْ وَتَعَجَّلْ: أَنَّهُ شَبِيهٌ بِالزِّيَادَةِ مَعَ النَّظِرَةِ الْمُجْتَمَعِ عَلَى تَحْرِيمِهَا، وَوَجْهُ شَبَهِهِ بِهَا أَنَّهُ جَعَلَ لِلزَّمَانِ مِقْدَارًا مِنَ الثَّمَنِ بَدَلًا مِنْهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ هُنَالِكَ لَمَّا زَادَ لَهُ فِي الزَّمَانِ زَادَ لَهُ عَرَضُهُ ثَمَنًا، وَهُنَا لَمَّا حَطَّ عَنْهُ الزَّمَانَ حَطَّ عَنْهُ فِي مُقَابَلَتِهِ ثَمَنًا. وَعُمْدَةُ مَنْ أَجَازَهُ: مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَمَرَ بِإِخْرَاجِ بَنِي النَّضِيرِ جَاءَهُ نَاسٌ مِنْهُمْ، فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّكَ أَمَرْتَ بِإِخْرَاجِنَا، وَلَنَا عَلَى النَّاسِ دُيُونٌ لَمْ تَحِلَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ضَعُوا وَتَعَجَّلُوا»، فَسَبَبُ الْخِلَافِ مُعَارَضَةُ قِيَاسِ الشَّبَهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ.

.بَيْعُ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ:

وَأَمَّا بَيْعُ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ مُجْمِعُونَ عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ إِلَّا مَا يُحْكَى عَنْ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ. وَإِنَّمَا أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى ذَلِكَ لِثُبُوتِ النَّهْيِ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ». وَاخْتُلِفَ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ:
أَحَدُهَا: فِيمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ مِنَ الْمَبِيعَاتِ.
وَالثَّانِي: فِي الِاسْتِفَادَاتِ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِي بَيْعِهَا الْقَبْضُ مِنَ الَّتِي لَا يُشْتَرَطُ.
وَالثَّالِثُ: فِي الْفَرْقِ بَيْنَ مَا يُبَاعُ مِنَ الطَّعَامِ مَكِيلًا وَجُزَافًا، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ.

.الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِيمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ مِنَ الْمَبِيعَاتِ:

وَأَمَّا بَيْعُ مَا سِوَى الطَّعَامِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَا خِلَافَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي إِجَازَتِهِ وَأَمَّا الطَّعَامُ الرِّبَوِيُّ فَلَا خِلَافَ فِي مَذْهَبِهِ أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ فِي بَيْعِهِ.
وَأَمَّا غَيْرُ الرِّبَوِيِّ مِنَ الطَّعَامِ فَعَنْهُ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا الْمَنْعُ وَهِيَ الْأَشْهَرُ، وَبِهَا قَالَ أَحْمَدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، إِلَّا أَنَّهُمَا اشْتَرَطَا مَعَ الطُّعْمِ الْكَيْلَ، وَالْوَزْنَ. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى الْجَوَازُ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ: فَالْقَبْضُ عِنْدَهُ شَرْطٌ فِي كُلِّ مَبِيعٍ مَا عَدَا الْمَبِيعَاتِ الَّتِي لَا تَنْتَقِلُ وَلَا تُحَوَّلُ مِنَ الدُّورِ، وَالْعَقَارِ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّ الْقَبْضَ عِنْدَهُ شَرْطٌ فِي كُلِّ مَبِيعٍ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَإِسْحَاقُ: كُلُّ شَيْءٍ لَا يُكَالُ، وَلَا يُوزَنُ فَلَا بَأْسَ بِبَيْعِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، فَاشْتَرَطَ هَؤُلَاءِ الْقَبْضَ فِي الْمَكِيلِ، وَالْمَوْزُونِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، وَرَبِيعَةُ، وَزَادَ هَؤُلَاءِ مَعَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ الْمَعْدُودَ. فَيَتَحَصَّلُ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: فِي الطَّعَامِ الرِّبَوِيِّ فَقَطْ.
وَالثَّانِي: فِي الطَّعَامِ بِإِطْلَاقٍ.
الثَّالِثُ: فِي الطَّعَامِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ.
الرَّابِعُ: فِي كُلِّ شَيْءٍ يُنْقَلُ.
الْخَامِسُ: فِي كُلِّ شَيْءٍ.
السَّادِسُ: فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ.
السَّابِعُ: فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ.
أَمَّا عُمْدَةُ مَالِكٍ فِي مَنْعِهِ مَا عَدَا الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ: فَدَلِيلُ الْخِطَابِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ.
وَأَمَّا عُمْدَةُ الشَّافِعِيِّ فِي تَعْمِيمِ ذَلِكَ فِي كُلِّ بَيْعٍ فَعُمُومُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَحِلُّ بَيْعٌ وَسَلَفٌ، وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ». وَهَذَا مِنْ بَابِ بَيْعِ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِهِ مِنْ أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ فِي دُخُولِ الْمَبِيعِ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، وَاحْتَجَّ أَيْضًا بِحَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَشْتَرِي بُيُوعًا فَمَا يَحِلُّ لِي مِنْهَا وَمَا يَحْرُمُ؟
فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، إِذَا اشْتَرَيْتَ بَيْعًا فَلَا تَبِعْهُ حَتَّى تَقْبِضَهُ»
. قَالَ أَبُو عُمَرَ: حَدِيثُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عِصْمَةَ حَدَّثَهُ: أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ قَالَ: وَيُوسُفُ بْنُ مَاهَكَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِصْمَةَ لَا أَعْرِفُ لَهُمَا جُرْحَةً، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَرْوِ عَنْهُمَا إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ فَقَطْ، وَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِجُرْحَةٍ، وَإِنْ كَرِهَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ. وَمِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّ بَيْعَ مَا لَمْ يُقْبَضْ يُتَطَرَّقُ مِنْهُ إِلَى الرِّبَا، وَإِنَّمَا اسْتَثْنَى أَبُو حَنِيفَةَ مَا يُحَوَّلُ، وَيُنْقَلُ عِنْدَهُ مِمَّا لَا يُنْقَلُ، لِأَنَّ مَا يُنْقَلُ الْقَبْضُ عِنْدَهُ فِيهِ هِيَ التَّخْلِيَةُ.
وَأَمَّا مَنِ اعْتَبَرَ الْكَيْلَ، وَالْوَزْنَ، فَلِاتِّفَاقِهِمْ أَنَّ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ لَا يَخْرُجُ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ إِلَى ضَمَانِ الْمُشْتَرِي إِلَّا بِالْكَيْلِ، أَوِ الْوَزْنِ، وَقَدْ نُهِيَ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُضْمَنْ.

.الْفَصْلُ الثَّانِي فِي الِاسْتِفَادَاتِ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِي بَيْعِهَا الْقَبْضُ مِنَ الَّتِي لَا يُشْتَرَطُ:

وَأَمَّا مَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِيهِ مِمَّا لَا يُعْتَبَرُ، فَإِنَّ الْعُقُودَ تَنْقَسِمُ أَوَّلًا إِلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ يَكُونُ بِمُعَاوَضَةٍ، وَقِسْمٌ يَكُونُ بِغَيْرِ مُعَاوَضَةٍ كَالْهِبَاتِ وَالصَّدَقَاتِ. وَالَّذِي يَكُونُ بِمُعَاوَضَةٍ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: يَخْتَصُّ بِقَصْدِ الْمُعَايَنَةِ وَالْمُكَايَسَةِ، وَهِيَ الْبُيُوعُ، وَالْإِجَارَاتُ، وَالْمُهُورُ، وَالصُّلْحُ، وَالْمَالُ الْمَضْمُونُ بِالتَّعَدِّي وَغَيْرِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: لَا يَخْتَصُّ بِقَصْدِ الْمُغَابَنَةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ عَلَى جِهَةِ الرِّفْقِ وَهُوَ الْقَرْضُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: فَهُوَ مَا يَصِحُّ أَنْ يَقَعَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا (أَعْنِي: عَلَى قَصْدِ الْمُغَابَنَةِ، وَعَلَى قَصْدِ الرِّفْقِ)، كَالشَّرِكَةِ، وَالْإِقَالَةِ، وَالتَّوْلِيَةِ. وَتَحْصِيلُ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ: أَمَّا مَا كَانَ بَيْعًا وَبِعِوَضٍ فَلَا خِلَافَ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِيهِ، وَذَلِكَ فِي الشَّيْءِ الَّذِي يَشْتَرِطُ فِيهِ الْقَبْضَ وَاحِدٌ وَاحِدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ.
وَأَمَّا مَا كَانَ خَالِصًا لِلرِّفْقِ (أَعْنِي: الْقَرْضَ)، فَلَا خِلَافَ أَيْضًا أَنَّ الْقَبْضَ لَيْسَ شَرْطًا فِي بَيْعِهِ (أَعْنِي: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَبِيعَ الْقَرْضَ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ). وَاسْتَثْنَى أَبُو حَنِيفَةَ مِمَّا يَكُونُ بِعِوَضٍ الْمَهْرَ، وَالْخُلْعَ، فَقَالَ: يَجُوزُ بَيْعُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ.
وَأَمَّا الْعُقُودُ الَّتِي تَتَرَدَّدُ بَيْنَ قَصْدِ الرِّفْقِ وَالْمُغَابَنَةِ (وَهِيَ التَّوْلِيَةُ، وَالشَّرِكَةُ، وَالْإِقَالَةُ)، فَإِذَا وَقَعَتْ عَلَى وَجْهِ الرِّفْقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ الْإِقَالَةُ، أَوِ التَّوْلِيَةُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، فَلَا خِلَافَ أَعْلَمُهُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ، وَلَا التَّوْلِيَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَتَجُوزُ الْإِقَالَةُ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهَا قَبْلَ الْقَبْضِ فَسْخُ بَيْعٍ لَا بَيْعٌ. فَعُمْدَةُ مَنِ اشْتَرَطَ الْقَبْضَ فِي جَمِيعِ الْمُعَاوَضَاتِ أَنَّهَا فِي مَعْنَى الْبَيْعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَإِنَّمَا اسْتَثْنَى مَالِكٌ مِنْ ذَلِكَ التَّوْلِيَةَ، وَالْإِقَالَةَ، وَالشَّرِكَةَ لِلْأَثَرِ وَالْمَعْنَى. أَمَّا الْأَثَرُ فَمَا رَوَاهُ مِنْ مُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ شَرِكَةٍ، أَوْ تَوْلِيَةٍ، أَوْ إِقَالَةٍ».
وَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى: فَإِنَّ هَذِهِ إِنَّمَا يُرَادُ بِهَا الرِّفْقُ لَا الْمُغَابَنَةُ إِذَا لَمْ تَدْخُلْهَا زِيَادَةٌ أَوْ نُقْصَانٌ، وَإِنَّمَا اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ الصَّدَاقَ، وَالْخُلْعَ، وَالْجُعْلَ، لِأَنَّ الْعِوَضَ فِي ذَلِكَ لَيْسَ بَيِّنًا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَيْنًا.

.الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي الْفَرْقِ بَيْنَ مَا يُبَاعُ مِنَ الطَّعَامِ مَكِيلًا وَجُزَافًا:

وَأَمَّا اشْتِرَاطُ الْقَبْضِ فِيمَا بِيعَ مِنَ الطَّعَامِ جُزَافًا، فَإِنَّ مَالِكًا رَخَّصَ فِيهِ وَأَجَازَهُ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَلَمْ يُجِزْ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَحُجَّتُهُمَا عُمُومُ الْحَدِيثِ الْمُتَضَمِّنِ لِلنَّهْي عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ، لِأَنَّ الذَّرِيعَةَ مَوْجُودَةٌ فِي الْجُزَافِ، وَغَيْرِ الْجُزَافِ. وَمِنَ الْحُجَّةِ لَهُمَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «كُنَّا فِي زَمَانِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبْتَاعُ الطَّعَامَ جُزَافًا، فَبَعَثَ إِلَيْنَا مَنْ يَأْمُرُنَا بِانْتِقَالِهِ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي ابْتَعْنَاهُ فِيهِ إِلَى مَكَانٍ سَوَاءٍ قَبْلَ أَنْ نَبِيعَهُ». قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَإِنْ كَانَ مَالِكٌ لَمْ يَرْوِ عَنْ نَافِعٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ذِكْرَ الْجُزَافِ، فَقَدْ رَوَتْهُ جَمَاعَةٌ وَجَوَّدَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَغَيْرُهُ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ فِي حِفْظِ حَدِيثِ نَافِعٍ. وَعُمْدَةُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْجُزَافَ لَيْسَ فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ، فَهُوَ عِنْدَهُمْ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ الْمَظْنُونِ الْعِلَّةِ، وَقَدْ يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَنْعِ بَيْعِ الرَّجُلِ شَيْئًا لَا يَمْلِكُهُ، وَهُوَ الْمُسَمَّى عِينَةً عِنْدَ مَنْ يَرَى نَقْلَهُ مِنْ بَابِ الذَّرِيعَةِ إِلَى الرِّبَا.
وَأَمَّا مَنْ رَأَى مَنْعَهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قَدْ لَا يُمْكِنُهُ نَقْلُهُ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي بُيُوعِ الْغَرَرِ. وَصُورَةُ التَّذَرُّعِ مِنْهُ إِلَى الرِّبَا الْمَنْهِيِّ عَنْهُ: أَنْ يَقُولَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ: أَعْطِنِي عَشَرَةَ دَنَانِيرَ عَلَى أَنْ أَدْفَعَ لَكَ إِلَى مُدَّةِ كَذَا ضِعْفَهَا، فَيَقُولُ لَهُ: هَذَا لَا يَصْلُحُ، وَلَكِنْ أَبِيعُ مِنْكَ سِلْعَةَ كَذَا لِسِلْعَةٍ يُسَمِّيهَا لَيْسَتْ عِنْدَهُ بِهَذَا الْعَدَدِ، ثُمَّ يَعْمِدُ هُوَ فَيَشْتَرِي تِلْكَ السِّلْعَةَ فَيَقْبِضُهَا لَهُ بَعْدَ أَنْ كَمُلَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا، وَتِلْكَ السِّلْعَةُ قِيمَتُهَا قَرِيبٌ مِمَّا كَانَ سَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنَ الدَّرَاهِمِ قَرْضًا فَيَرُدُّ عَلَيْهِ ضِعْفَهَا، وَفِي الْمَذْهَبِ فِي هَذَا تَفْصِيلٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِهِ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ فِي الْمَذْهَبِ (أَعْنِي: إِذَا تَقَارَّا عَلَى الثَّمَنِ الَّذِي يَأْخُذُ بِهِ السِّلْعَةَ قَبْلَ شِرَائِهَا).
وَأَمَّا الدَّيْنُ بِالدَّيْنِ، فَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَنْعِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَسَائِلَ هَلْ هِيَ مِنْهُ أَمْ لَيْسَتْ مِنْهُ؟
مِثْلُ مَا كَانَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَا يُجِيزُ أَنْ يَأْخُذَ الرَّجُلُ مِنْ غَرِيمِهِ فِي دَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ تَمْرًا قَدْ بَدَا صَلَاحُهُ، وَلَا سُكْنَى دَارٍ، وَلَا جَارِيَةً تَتَوَاضَعُ، وَيَرَاهُ مِنْ بَابِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ. وَكَانَ أَشْهَبُ يُجِيزُ ذَلِكَ وَيَقُولُ: لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَإِنَّمَا الدَّيْنُ بِالدَّيْنِ مَا لَمْ يَشْرَعْ فِي أَخْذِ شَيْءٍ مِنْهُ، وَهُوَ قِيَاسٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْمَالِكِيِّينَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَمِمَّا أَجَازَهُ مَالِكٌ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَخَالَفَهُ فِيهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مَا قَالَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ مِنْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَبِيعُونَ اللَّحْمَ بِسِعْرٍ مَعْلُومٍ، وَالثَّمَنُ إِلَى الْعَطَاءِ، فَيَأْخُذُ الْمُبْتَاعُ كُلَّ يَوْمٍ وَزْنًا مَعْلُومًا قَالَ: وَلَمْ يَرَ النَّاسُ بِذَلِكَ بَأْسًا، وَكَذَلِكَ كَلُّ مَا يُبْتَاعُ فِي الْأَسْوَاقِ، وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِيمَا خُشِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْفَسَادِ مِنَ الْفَوَاكِهِ إِذَا أُخِذَ جَمِيعُهُ.
وَأَمَّا الْقَمْحُ وَشِبْهُهُ فَلَا، فَهَذِهِ هِيَ أُصُولُ هَذَا الْبَابِ، وَهَذَا الْبَابُ كُلُّهُ إِنَّمَا حُرِّمَ فِي الشَّرْعِ لِمَكَانِ الْغَبْنِ الَّذِي يَكُونُ طَوْعًا وَعَنْ عِلْمٍ.

.الْبَابُ الثَّالِثُ فِي الْبُيُوعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا بِسَبَبِ الْغَرَرِ:

وَهِيَ الْبُيُوعُ الْمَنْهِيُّ عَنْهَا مِنْ قِبَلِ الْغَبْنِ الَّذِي سَبَبُهُ الْغَرَرُ، وَالْغَرَرُ يُوجَدُ فِي الْمَبِيعَاتِ مِنْ جِهَةِ الْجَهْلِ عَلَى أَوْجُهٍ: إِمَّا مِنْ جِهَةِ الْجَهْلِ بِتَعْيِينِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، أَوْ تَعْيِينِ الْعَقْدِ، أَوْ مِنْ جِهَةِ الْجَهْلِ بِوَصْفِ الثَّمَنِ وَالْمَثْمُونِ الْمَبِيعِ، أَوْ بِقَدْرِهِ، أَوْ بِأَجَلِهِ إِنْ كَانَ هُنَالِكَ أَجَلٌ، وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ الْجَهْلِ بِوُجُودِهِ، أَوْ تَعَذُّرِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى تَعَذُّرِ التَّسْلِيمِ، وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ الْجَهْلِ بِسَلَامَتِهِ (أَعْنِي: بَقَاءَهُ)، وَهَاهُنَا بُيُوعٌ تَجَمَعُ أَكْثَرَ هَذِهِ أَوْ بَعْضَهَا. وَمِنَ الْبُيُوعِ الَّتِي تُوجَدُ فِيهَا هَذِهِ الضُّرُوبُ مِنَ الْغَرَرِ: بُيُوعٌ مَنْطُوقٌ بِهَا، وَبُيُوعٌ مَسْكُوتٌ عَنْهَا، وَالْمَنْطُوقُ بِهِ أَكْثَرُهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُخْتَلَفُ فِي شَرْحِ أَسْمَائِهَا، وَالْمَسْكُوتُ عَنْهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. وَنَحْنُ نَذْكُرُ أَوَّلًا الْمَنْطُوقَ بِهِ فِي الشَّرْعِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْفِقْهِ، ثُمَّ نَذْكُرُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ مَا شَهُرَ الْخِلَافُ فِيهِ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ لِيَكُونَ كَالْقَانُونِ فِي نَفْسِ الْفِقْهِ (أَعْنِي: فِي رَدِّ الْفُرُوعِ إِلَى الْأُصُولِ).